هذه الرواية كتبتها منذ قرابة الثلاث أعوام، أرجوا أن تنال إعجابكم
الفصل الأول
كان الجو باردا تصطك منه أسنان الإنسان..إنها السابعة صباحا..في الفراش يتكور أغلب الناس يستمتعون بالنوم والدفيء، لكن هناك من يتكور من البرد لم يجد أين ينام بل لم يجد حتى أين يضع رأسه وربما نام وهو واقف..إنها السابعة وعشر دقائق..يمر الوقت ولازلت في الفراش أفكر، لقد قضيت الليل كله ساهرا..لا أعرف لماذا فالنعاس لم يغلبني واستغلت الأفكار الفرصة فظلت تحوم فوق رأسي من فكرة إلي أخري، أتقلب الشمال واليمين وأحاول النوم لكن بدون جدوى فلقد أصر النوم علي هجراني اليوم..بقيت في الفراش أنتظر الوقت ليمر..كم كان ذلك الوقت ثقيلا..في بعض الأحيان أقول لماذا هو ثقيل هكذا؟، بل أسأل نفسي هل الوقت سريع وبطيء؟، هل هو كذلك أم نحن نحس بذلك فقط؟..في أوقات اللذة نقول كم هو سريع وفي أوقات العذاب نقول كم هو بطيء..إنها السابعة وعشرون دقيقة..لم يتبقي إلا عشر دقائق علي نهوضي المعتاد..كنت متعودا علي رنين المنبه لكي أستيقظ أما اليوم فأنا من يوقف المنبه قبل رنينه، لم يعد من الفائدة البقاء في الفراش، يجب أن أحضر نفسي ليوم جديد سيكون حافلا بالمفاجآت السارة والسيئة..أنهض وأتوجه إلي الحمام..كم هو صعب الاستيقاظ رغم عدم النوم لكن كم هو مريح الذهاب إلي النوم بعد يوم شاق..إنها السابعة ونصف..أتوجه إلي المطبخ..ليس هناك أحد، نعم فقد تعودت علي ذلك منذ ثلاث سنوات، فطور الصباح أحظره بنفسي، آه يا أمي رحمة الله عليك لم أكن أضن أن الحياة صعبة هكذا بدونك..كلما أكبر أحس أني بحاجة إليك أكثر من أي وقت مضي..اعد الفطور لنفسي وأتذكر كيف كان أبي يحضر الفطور لنا أنا وأختي..فالصدمة كانت قوية عليه في الأول عندما فقد زوجته لكن مع مر الوقت بدأ يرجع إلي حالته الطبيعية..أصبح أبي يحضر الفطور لنفسه ويذهب لعمله قبلنا بأكثر من ساعة..لقد أحس أن الأمر يجب أن ينتهي والعيش في الماضي يجب أن يختفي..لقد أحس أن طيبته لنا أكثر من اللزوم لن ترجع لنا أمنا..لقد وضعنا أمام الأمر الواقع..أنتم لا تملكون أما..كنت أحضر الفطور لنفسي ولأختي التي رغم أنها ليست صغيرة إلا أني كنت أنظر إليها علي أنها فتاة يتيمة وهذا ما جعلني احن عليها أكثر من نفسي لدرجة كان يقول لي أبي أني أحن عليها أكثر من أمها لو كانت موجودة..لا أدري كيف كنت أنظر إليها علي أنها يتيمة ولم أنظر لنفسي علي أنني يتيم..إنها السابعة و خمس وأربعون يجب أن أذهب الآن للثانوية، الحمد لله أنها لا تبعد عنا كثيرا..أخرج من الشقة وأنزل الدرج حتى أخرج من العمارة..كان من عادتي أن ألتقي بصديقي "سعيد" الذي يسكن بجوارنا ومن الصدفة أننا كنا نلتقي في معظم الأوقات ونادرا ما يخرج أحدنا قبل الآخر..أضن أن اليوم هو واحد من تلك الأوقات النادرة..أسير بتثاقل حتى أصل في الوقت، فمن عادتي أني لا أحب الوصول قبل الوقت، أدخل الثانوية وأتوجه للقسم مباشرة، ألقي السلام وأتوجه إلي مقعدي..كان أستاذ التاريخ قد تعود مني هذا التأخير فلم يحدث ولا مرة أن دخلت مع الصف، فأنا لا أحب الانتظار والوقوف في الصف..يبدأ الأستاذ في إلقاء الدرس..إنها الحرب العالمية الثانية، كان الأستاذ يلقي الدرس وهو مستمتع وكل التلاميذ منتبهون معه وعند إلقاء الأسئلة يردون بسرعة..كنت أتساءل من جدوى هذا التاريخ، كله أحداث مضت، كانوا دائما يتغنون علينا بأن التاريخ هو جذورنا التي لا يجب أن ننساها، لكن من هو الذي يولي أهمية لهؤلاء الأجداد، نحن لم نحقق حتي أبسط أمانيهم نحن نعرف فقط التذكير بالتاريخ، لكن لا نعرف صنع التاريخ..كان الأجدر أن نسمي هذه المادة صنع التريخ لكي نعرف كيف نصنع حاضرا يكون في المستقبل تاريخا يتغني به وليس تاريخا نظل علي مر السنين نتكلم عنه..وبينما أنا أفكر في هذا التريخ يباغتني الأستاذ بسؤال:
ـ "أيمن"، من دخل مصر من قادة الألمان في أثناء الحرب العالمية الثانية؟.
أستيقظ من أفكاري وأنتبه للأستاذ..أفكر ثم أتظاهر بالإجابة
ـ من قادة الألمان..أضن أنه..قائد معروف..
يحس الأستاذ أني لا أعرف الجواب ويقول:
ـ من بداية الحصة وأنا أتكلم عنه وأنت لا أدري أين كان عقلك..أعلم أنك لا تحب التاريخ لكن علي الأقل أنتبه وحاول أن تجعل التاريخ قصة تقرأها وليس مادة تدرسها، هل فهمت؟.
ـ نعم، فهمت يا أستاذ.
لا أدري ما حدث اليوم، فلم يكن من المتعود أن يعطيني الأستاذ ملاحظات، نعم إنها هذه الأفكار التي تحوم فوق رأسي من البارحة ولا تريد أن تتركني وشأني..ألتفت يمينا وشمالا وألاحظ شخصا جديدا في القسم، فقد تعودنا علي حضور أشخاص جدد إلي القسم عند بداية كل سنة..كان هذا الشخص بنتا تظهر من ملامحها أنها جدية في الدراسة..نظرت فيها وظللت أتأملها فانتبهت لي ونظرت إلي فصرفت نظري بسرعة وتظاهرت بمتابعة الدرس..لم أفهم لماذا لفتت انتباهي؟، فمن عادتي أني لا أنتبه للغير مهما كانوا..استدرت لصديقي "علي" الجالس معي وقلت:
ـ من هذه الفتاة الجديدة يا "علي"؟.
فرد علي وهو منتبه مع الأستاذ وبصوت خافت:
ـ طالبة جديدة في القسم.
ـ أعرف أنها طالبة جديدة، لكن ما أسمها؟، وأين تسكن؟، ماذا تعرف عنها؟.
فيرد علي بنرفزته المعتادة:
ـ وما أدراني؟، هل أنا أخوها!.
ثم التفت إلي وهو مستغرب:
ـ لكن لماذا تسأل عنها؟، ما قصتك اليوم؟.
نظرت فيه وأظهرت ملامح التعجب وقلت له وأنا أنظر إلي الفتاة الجديدة:
ـ لا شيء، مجرد فضول.
يرجع "علي" للانتباه مع الدرس بينما بقيت أنا أتأمل الفتاة الجديدة كأني شاهدتها من قبل أو أعرفها من قبل، لم أفهم سبب اهتمامي بها لكني لم أبحث عن السبب..وفي خضم تأملي لها تستدير الفتاة وتنظر إلي..نظرت فيها ولم أدر وجهي بينما هي تمعنت فيا ثم تبسمت واستدارت للانتباه مع الأستاذ..وبينما أنا مازلت أتمعن فيها ينادي علي الأستاذ بغضب ويقول:
ـ "أيمن" ما قصتك اليوم؟، عدم اهتمام بالدرس ودردشة مع صديقك ودوران للخلف، إن لم يعجبك الدرس فاخرج.
ـ لا، لا أنا منتبه يا أستاذ.
ـ أرجوك "أيمن" يمكنك الخروج ولا تفسد علي درس اليوم.
وكان من عادة أستاذ التاريخ أنه عندما يقول كلمة "أرجوك" فيعني أنه يطلب منك الخروج فورا وبدون مناقشة، لم أرد المناقشة وحملت نفسي وخرجت من القسم..لا أدري ما يحدث لي اليوم، فليس من عادة أستاذ التاريخ "بدر الدين خواجة" أن يطردني من القسم، فهو متسامح لأقصي الحدود، لكن يمكن أن تكون هناك مشاكل وقعت له..فهو إنسان فقير يعمل بمبادئه، لم يستطع الزواج رغم أن عمره تجاوز الأربعين من عمره ولا يزال يعيش مع أمه وأبيه وأخوته الستة، يصرف علي أهله بما أنه الأكبر وأبوه لا يعمل، في بعض الأحيان تدهشك حياة بعض الناس وتقول كيف يستطيعون العيش في حالة مثل هذه؟، أتساءل كيف لكل هذه المشاكل لم تغير هذا الرجل، رغم أني أحترمه إلا أني لا أحتمل مادته التي تسمي التاريخ، للأسف أنه يدرس مادة لا أطيقها ورغم ذلك فهو يحترمني كثيرا، واليوم هو أول يوم يطردني فيه..ماذا سأفعل الآن؟، وأين سأتجه؟، سأبحث عن قسم فارغ وأتوجه إليه..لم يكن الأمر صعبا فلقد كان القسم المقابل لنا فارغا فاخترت زاوية معزولة من القسم وجلست فيها..ضللت هكذا ثم مللت فمازال من وقت حصة التاريخ أكثر من عشرين دقيقة..ماذا سأفعل؟، نهضت وخرجت من القسم..سرت في الرواق وأنا أفكر في تلك الفتاة..لكن ما بالي اليوم؟!، لماذا أفكر في هذه الفتاة الجديدة بهذا الشكل، لماذا هي بالذات، هل يمكن أن أكون رأيتها من قبل؟، وضللت أطرح الأسئلة علي نفسي لكن لم أجد لها جوابا، وأنا أفكر ألتقي بالمراقب العام عند المنعطف من الرواق عند مخرج الطابق، فبادرني بسؤال سريع:
ـ ماذا تفعل هنا يا "أيمن"؟.
فرددت بسرعة لكي أبعد الشك:
ـ متوجه إلي المرحاض، فأنا مريض.
وكان من قانون الثانوية أنه لا يسمح للطلبة الخروج من القسم إلا للضرورة القصوى، فرد علي المراقب وهو يتمعن فيا:
ـ أرجوا أن لا تكون قد طردت من القسم.
فأجبت بالنفي وأستسمحته بالانصراف لأني مستعجل جدا وأنا أتظاهر بأن بطني يؤلمني..هربت من المراقب العام و الذي نلقبه نحن الطلبة "زيزون" و أسمه الحقيقي "سمير العربي" وقصة لقب "زيزون" أنه كان يلقي خطابا بمناسبة بداية العام الجديد منذ أربع سنوات وذكر غصن الزيتون وبدل قول غصن الزيتون قال غصن الزيزون ولم ينتبه لما قال فانفجر الحضور بالضحك، ومنذ تلك الحادثة أصبحنا نلقبه "زيزون" لكن مع ذلك فهو قاسي جدا ولا يتسامح أبدا مع الطلبة وحتى الأساتذة وربما لهذا السبب أصبحت هذه الثانوية من بين الأفضل مابين المؤسسات التربوية الأخرى ونسبة النجاح فيها كبير..وصلت إلي الحمام ودخلته، بقيت أترقب دخول أحد المراقبين أو حتى المراقب العام لأنه من عادته أنه يقوم بجولة تفقدية للحمام فقد أمسك أكثر من مرة بطلبة يدخنون ومنهم من كان يتعاطي المخدرات..يدخل أحد الطلبة الحمام فأهم بالخروج فيسألني الطالب:
ـ هل رأيت "زيزون"؟.
ـ نعم، كان من جهة الأقسام العلمية.
ـ أرجوا أن لا يأتي إلي هنا.
ـ لا أضمن لك، فجولاته علي الحمام هذه الأيام كثرت، سمعت أنه امسك الأسبوع الماضي علي أحدهم في الحمام وهو يتاجر بالمخدرات.
يخرج الطالب سيجارة ويقول:
ـ حتى التدخين منعوه علينا، ما هذه المؤسسة المملة، لا يعرفون إلا الدراسة.
تبسمت وقلت:
ـ أضن أن هذه المؤسسة هي مخصصة أصلا للدراسة.
خرجت من الحمام من الحمام وأنا أتمني أن لا ألتقي بالمراقب العام..ألقيت نظرة علي الساعة، لم تبقي إلا دقائق وتنتهي حصة التاريخ..رجعت للقسم الفارغ وبقيت فيه وأنا أتساءل من هذا اليوم غير عادي، وفي أثناء تفكيري يرن الموبايل فالتقطه بسرعة حتى لا يحس بي أحد وقلت:
ـ ألو، من معي؟.
ـ هذا أنا أبوك، ألم تعرفني؟.
وكان من عادتي أن أري رقم المتصل قبل أن أرد لكني رددت قبل أن أري الرقم.
ـ لا، لكني لم أشاهد الرقم.
ـ ليست مشكلة، كيف حالك؟.
ـ لا بأس أبي، لكن تعرف أني في الثانوية والقانون يمنع التكلم في الموبايل.
ـ أعلم، لكني اضطررت للاتصال بك حتى أخبرك أني لن آتي اليوم للبيت.
تملكتني حالة من الحزن والأسي وقلت:
ـ حتى اليوم لن تأتي.
ـ آسف "أيمن"، العمل كثير جدا، لا تحزن سأعوض عن هذا في المستقبل، لا تنسي أن تخبر أختك.
ـ لا تقلق يا أبي، فقد تعودت علي ذلك.
ـ أتركك بخير يا "أيمن".
ـ إلي اللقاء أبي.
ينقطع الاتصال وأقفل الموبايل..هذا هو أبي، أصبح كثير السهر خارج البيت، في الأول كنت أضن أنه العمل، لكن العمل ليس لهذه الدرجة..لا أدري ما يفعل لكنه منذ أن ماتت أمي رحمها الله تغير كثيرا، كأن وفاة أمي أثرت فيه كثيرا..لقد علمت من خالتي أن أبي وأمي كانا يحبان بعضهما كثيرا، وربما هذا ما جعله لا ينزع صورتها المعلقة في البيت أبدا، كان كلما ذكروه بها يحزن وينسحب من المجلس حتى صاروا يتحاشون الحديث عنها أمامه..لكن هذا الأمر بدأ ينقص مع مر الأشهر والسنوات، وبعد أن كان قليلا ما يتكلم ويضحك أصبح منفتحا علي الحياة..لن أقول أن هذا الوضع لا يعجبني بل هي سنة الحياة ومستحيل أن يبقي متعلقا بالماضي، لكن أضن أن هناك شيئا أخرجه من حزنه.
يرن جرس الثانوية..أخرج من القسم لألتحق بقسمي، هممت بدخول قسمي فأجد أستاذ التاريخ قبالتي فيقول لي:
ـ "أيمن"، يجب أن تعلم أني أبحث عن مصلحتك ولم آتي لهنا لأكون عائقا أمام نجاحك، أنا طردتك اليوم لتعلم أنك مثل جميع زملائك مهدد بطوفان الفشل إن لم تنتبه لنفسك لأنه لن يرحمك أبدا.
طأطأت رأسي وقلت:
ـ شكرا يا أستاذ، وأنا أسف علي ما بدر مني اليوم.
فرتب بيده علي كتفي وقال:
ـ لا عليك، فما هي إلا كبوة جواد.
انصرف الأستاذ ودخلت القسم والتحقت بـ"علي" في الطاولة فقال لي:
ـ لم أكن أعرف أنك صرت عنصرا مشوشا لهذه الدرجة.
فقلت له وأنا أتبسم:
ـ شكرا يا زميلي في التشويش.
وأنا أدردش مع زميلي "علي" أسمع صوتا من خلفي يقول:
ـ مرحبا يا جماعة.
أستدير فأجد تلك الفتاة الجديدة ورائي
ـ مرحبا بكي في قسمنا الجميل.
رد عليها "علي" بشكل عادي بينما بقيت أنا أنظر مندهشا ولم أجد ما أقول
ـ ألن ترحب بها يا "ايمن".
أستدير إلي "علي" وأنا مازلت في حالة من الشرود ثم قلت وكأني أستفيق:
ـ نعم، نعم مر..حب..ا بكي.
تعجبت من حالي وكيف لم أستطع أن أقول كلمة واحدة بشكل عادي.
ـ أنا "يسرا" طالبة جديدة في القسم،"يسرا الواجد".
فأرد عليها لكن أفضل من الأول:
ـ مرحبا..بكي،..أنا "أيمن جبور" وهذا زميلي "علي باشا".
فضحكت وقالت مازحة لـ"علي":
ـ أضنك من عائلة "محمد علي باشا".
فرد عليها "علي" وهو يضحك:
ـ لم أبحث بعد في أصل عائلتي.
تعجبت من انسجامهم في الحديث وبدأت أتساءل عن عائلة "محمد علي باشا".
ـ أسمك جميل، من أسماك؟.
قال "علي" الذي أحسست أنه بدأ يجتذبها في الحديث، فهو متعود علي جذب أي فتاة يصادفها ومهما كان شكلها أو لونها أو أصلها، كان يحب اجتذاب البنات حتى يحس أنه فتي جذاب..لم أكن اهتم بهذا الأمر لكني أحسست بالتضايق من كلامه معها.
ـ أبي سماني "يسرا" تفاءلا بأن أكون يسيرة عليه، وأنا أحب أسمي كثيرا وأحب أبي أكثر.
ضحكت وضحك "علي" بينما تبسمت وبقيت أتمعن في وجها وهي تضحك..كانت أجمل ضحكة رأيتها في حياتي..لا أدري ماذا يحدث لي، كأن هذه الفتاة الجديدة سحرتني بسحر غريب..حاولت أن أبعد ناظري عن وجهها لكني لم أستطع، كانت تملك جمالا طبيعيا..لم أفهم ماذا يحدث لي ولِما أصابني الخجل بشكل مفاجئ..فمن عادتي أن أكلم البنات بشكل عادي وبدون أي حاجز وكأني أكلم أحدا من أصدقائي الذكور لكن مع هذه الفتاة لم أستطع حتى أن أقول كلمتين مع بعضهما بشكل عادي..تنسحب "يسرا" وأنا مازلت أحدق في وجهها.
ـ "أيمن"، "أيمن"..أيه، أين سرحت.
وأجد يد "علي" تلوح أمام وجهي:
ـ نعم، ماذا هناك؟.
ـ قلت لك أنها تملك قوام جذاب.
ـ الفتاة جديدة وأنت تتمعن في جسدها، احترم نفسك قليلا.
قلت وقد تملكتني حالة من الغضب..لم أفهم لماذا غضبت رغم أن "علي" متعود علي هذه الأمور ويقولها لي دائما عندما يشاهد فتاة جذابة ولا أغضب أو أتضايق.
ـ ولماذا أنت غاضب هكذا؟.
ـ لست غاضبا..المهم أين هي؟.
ـ خرجت من القسم.
ـ إلي أين؟.
ينسحب "علي" لينظم لمجموعة أخري ويقول:
ـ لا أدري، قالت أنها تحتاج للخروج قليلا.
أخرج من القسم مسرعا وأنا لا أفهم لماذا أبحث عنها وما سبب اهتمامي الزائد بها..أبحث عنها في الرواق ثم أتجه إلي الساحة، وبينما أنا أبحث عنها ألمحها من بعيد مع شاب يدردشان..كان الشاب وسيما ويظهر أنه من جماعة الطبقة الراقية..كانا منسجمان في الحديث، تجاهلت الموقف ورجعت إلي القسم، دخلته وجلست في مكاني وأنا أفكر.
ـ ما بالك "أيمن"، أمرك غريب اليوم؟!.
يسألني "علي" فأرد بنرفزة غير عادية.
ـ وما دخلك إن كنت غريب أو مجنون، اهتم بشؤونك.
يسكت "علي" ويستدير إلي أحد الأصدقاء من الجهة الأخرى.
ما بالي اليوم، ما قصة هذه البنت "يسرا" ولماذا أنا غاضب هكذا..هل لأني رأيتها تقف مع فتي أخر وتدردش معه وهما في قمة الانسجام..فلتقف وأنا ما دخلي، لماذا حتى أغضب؟..يدخل القسم أستاذ الرياضيات فأفتح كراسي وأمسك قلمي، فهذه المادة من أهم اختصاصاتي ولا أحب أن أضيع درسا واحدا فيها.
الفصل الأول
كان الجو باردا تصطك منه أسنان الإنسان..إنها السابعة صباحا..في الفراش يتكور أغلب الناس يستمتعون بالنوم والدفيء، لكن هناك من يتكور من البرد لم يجد أين ينام بل لم يجد حتى أين يضع رأسه وربما نام وهو واقف..إنها السابعة وعشر دقائق..يمر الوقت ولازلت في الفراش أفكر، لقد قضيت الليل كله ساهرا..لا أعرف لماذا فالنعاس لم يغلبني واستغلت الأفكار الفرصة فظلت تحوم فوق رأسي من فكرة إلي أخري، أتقلب الشمال واليمين وأحاول النوم لكن بدون جدوى فلقد أصر النوم علي هجراني اليوم..بقيت في الفراش أنتظر الوقت ليمر..كم كان ذلك الوقت ثقيلا..في بعض الأحيان أقول لماذا هو ثقيل هكذا؟، بل أسأل نفسي هل الوقت سريع وبطيء؟، هل هو كذلك أم نحن نحس بذلك فقط؟..في أوقات اللذة نقول كم هو سريع وفي أوقات العذاب نقول كم هو بطيء..إنها السابعة وعشرون دقيقة..لم يتبقي إلا عشر دقائق علي نهوضي المعتاد..كنت متعودا علي رنين المنبه لكي أستيقظ أما اليوم فأنا من يوقف المنبه قبل رنينه، لم يعد من الفائدة البقاء في الفراش، يجب أن أحضر نفسي ليوم جديد سيكون حافلا بالمفاجآت السارة والسيئة..أنهض وأتوجه إلي الحمام..كم هو صعب الاستيقاظ رغم عدم النوم لكن كم هو مريح الذهاب إلي النوم بعد يوم شاق..إنها السابعة ونصف..أتوجه إلي المطبخ..ليس هناك أحد، نعم فقد تعودت علي ذلك منذ ثلاث سنوات، فطور الصباح أحظره بنفسي، آه يا أمي رحمة الله عليك لم أكن أضن أن الحياة صعبة هكذا بدونك..كلما أكبر أحس أني بحاجة إليك أكثر من أي وقت مضي..اعد الفطور لنفسي وأتذكر كيف كان أبي يحضر الفطور لنا أنا وأختي..فالصدمة كانت قوية عليه في الأول عندما فقد زوجته لكن مع مر الوقت بدأ يرجع إلي حالته الطبيعية..أصبح أبي يحضر الفطور لنفسه ويذهب لعمله قبلنا بأكثر من ساعة..لقد أحس أن الأمر يجب أن ينتهي والعيش في الماضي يجب أن يختفي..لقد أحس أن طيبته لنا أكثر من اللزوم لن ترجع لنا أمنا..لقد وضعنا أمام الأمر الواقع..أنتم لا تملكون أما..كنت أحضر الفطور لنفسي ولأختي التي رغم أنها ليست صغيرة إلا أني كنت أنظر إليها علي أنها فتاة يتيمة وهذا ما جعلني احن عليها أكثر من نفسي لدرجة كان يقول لي أبي أني أحن عليها أكثر من أمها لو كانت موجودة..لا أدري كيف كنت أنظر إليها علي أنها يتيمة ولم أنظر لنفسي علي أنني يتيم..إنها السابعة و خمس وأربعون يجب أن أذهب الآن للثانوية، الحمد لله أنها لا تبعد عنا كثيرا..أخرج من الشقة وأنزل الدرج حتى أخرج من العمارة..كان من عادتي أن ألتقي بصديقي "سعيد" الذي يسكن بجوارنا ومن الصدفة أننا كنا نلتقي في معظم الأوقات ونادرا ما يخرج أحدنا قبل الآخر..أضن أن اليوم هو واحد من تلك الأوقات النادرة..أسير بتثاقل حتى أصل في الوقت، فمن عادتي أني لا أحب الوصول قبل الوقت، أدخل الثانوية وأتوجه للقسم مباشرة، ألقي السلام وأتوجه إلي مقعدي..كان أستاذ التاريخ قد تعود مني هذا التأخير فلم يحدث ولا مرة أن دخلت مع الصف، فأنا لا أحب الانتظار والوقوف في الصف..يبدأ الأستاذ في إلقاء الدرس..إنها الحرب العالمية الثانية، كان الأستاذ يلقي الدرس وهو مستمتع وكل التلاميذ منتبهون معه وعند إلقاء الأسئلة يردون بسرعة..كنت أتساءل من جدوى هذا التاريخ، كله أحداث مضت، كانوا دائما يتغنون علينا بأن التاريخ هو جذورنا التي لا يجب أن ننساها، لكن من هو الذي يولي أهمية لهؤلاء الأجداد، نحن لم نحقق حتي أبسط أمانيهم نحن نعرف فقط التذكير بالتاريخ، لكن لا نعرف صنع التاريخ..كان الأجدر أن نسمي هذه المادة صنع التريخ لكي نعرف كيف نصنع حاضرا يكون في المستقبل تاريخا يتغني به وليس تاريخا نظل علي مر السنين نتكلم عنه..وبينما أنا أفكر في هذا التريخ يباغتني الأستاذ بسؤال:
ـ "أيمن"، من دخل مصر من قادة الألمان في أثناء الحرب العالمية الثانية؟.
أستيقظ من أفكاري وأنتبه للأستاذ..أفكر ثم أتظاهر بالإجابة
ـ من قادة الألمان..أضن أنه..قائد معروف..
يحس الأستاذ أني لا أعرف الجواب ويقول:
ـ من بداية الحصة وأنا أتكلم عنه وأنت لا أدري أين كان عقلك..أعلم أنك لا تحب التاريخ لكن علي الأقل أنتبه وحاول أن تجعل التاريخ قصة تقرأها وليس مادة تدرسها، هل فهمت؟.
ـ نعم، فهمت يا أستاذ.
لا أدري ما حدث اليوم، فلم يكن من المتعود أن يعطيني الأستاذ ملاحظات، نعم إنها هذه الأفكار التي تحوم فوق رأسي من البارحة ولا تريد أن تتركني وشأني..ألتفت يمينا وشمالا وألاحظ شخصا جديدا في القسم، فقد تعودنا علي حضور أشخاص جدد إلي القسم عند بداية كل سنة..كان هذا الشخص بنتا تظهر من ملامحها أنها جدية في الدراسة..نظرت فيها وظللت أتأملها فانتبهت لي ونظرت إلي فصرفت نظري بسرعة وتظاهرت بمتابعة الدرس..لم أفهم لماذا لفتت انتباهي؟، فمن عادتي أني لا أنتبه للغير مهما كانوا..استدرت لصديقي "علي" الجالس معي وقلت:
ـ من هذه الفتاة الجديدة يا "علي"؟.
فرد علي وهو منتبه مع الأستاذ وبصوت خافت:
ـ طالبة جديدة في القسم.
ـ أعرف أنها طالبة جديدة، لكن ما أسمها؟، وأين تسكن؟، ماذا تعرف عنها؟.
فيرد علي بنرفزته المعتادة:
ـ وما أدراني؟، هل أنا أخوها!.
ثم التفت إلي وهو مستغرب:
ـ لكن لماذا تسأل عنها؟، ما قصتك اليوم؟.
نظرت فيه وأظهرت ملامح التعجب وقلت له وأنا أنظر إلي الفتاة الجديدة:
ـ لا شيء، مجرد فضول.
يرجع "علي" للانتباه مع الدرس بينما بقيت أنا أتأمل الفتاة الجديدة كأني شاهدتها من قبل أو أعرفها من قبل، لم أفهم سبب اهتمامي بها لكني لم أبحث عن السبب..وفي خضم تأملي لها تستدير الفتاة وتنظر إلي..نظرت فيها ولم أدر وجهي بينما هي تمعنت فيا ثم تبسمت واستدارت للانتباه مع الأستاذ..وبينما أنا مازلت أتمعن فيها ينادي علي الأستاذ بغضب ويقول:
ـ "أيمن" ما قصتك اليوم؟، عدم اهتمام بالدرس ودردشة مع صديقك ودوران للخلف، إن لم يعجبك الدرس فاخرج.
ـ لا، لا أنا منتبه يا أستاذ.
ـ أرجوك "أيمن" يمكنك الخروج ولا تفسد علي درس اليوم.
وكان من عادة أستاذ التاريخ أنه عندما يقول كلمة "أرجوك" فيعني أنه يطلب منك الخروج فورا وبدون مناقشة، لم أرد المناقشة وحملت نفسي وخرجت من القسم..لا أدري ما يحدث لي اليوم، فليس من عادة أستاذ التاريخ "بدر الدين خواجة" أن يطردني من القسم، فهو متسامح لأقصي الحدود، لكن يمكن أن تكون هناك مشاكل وقعت له..فهو إنسان فقير يعمل بمبادئه، لم يستطع الزواج رغم أن عمره تجاوز الأربعين من عمره ولا يزال يعيش مع أمه وأبيه وأخوته الستة، يصرف علي أهله بما أنه الأكبر وأبوه لا يعمل، في بعض الأحيان تدهشك حياة بعض الناس وتقول كيف يستطيعون العيش في حالة مثل هذه؟، أتساءل كيف لكل هذه المشاكل لم تغير هذا الرجل، رغم أني أحترمه إلا أني لا أحتمل مادته التي تسمي التاريخ، للأسف أنه يدرس مادة لا أطيقها ورغم ذلك فهو يحترمني كثيرا، واليوم هو أول يوم يطردني فيه..ماذا سأفعل الآن؟، وأين سأتجه؟، سأبحث عن قسم فارغ وأتوجه إليه..لم يكن الأمر صعبا فلقد كان القسم المقابل لنا فارغا فاخترت زاوية معزولة من القسم وجلست فيها..ضللت هكذا ثم مللت فمازال من وقت حصة التاريخ أكثر من عشرين دقيقة..ماذا سأفعل؟، نهضت وخرجت من القسم..سرت في الرواق وأنا أفكر في تلك الفتاة..لكن ما بالي اليوم؟!، لماذا أفكر في هذه الفتاة الجديدة بهذا الشكل، لماذا هي بالذات، هل يمكن أن أكون رأيتها من قبل؟، وضللت أطرح الأسئلة علي نفسي لكن لم أجد لها جوابا، وأنا أفكر ألتقي بالمراقب العام عند المنعطف من الرواق عند مخرج الطابق، فبادرني بسؤال سريع:
ـ ماذا تفعل هنا يا "أيمن"؟.
فرددت بسرعة لكي أبعد الشك:
ـ متوجه إلي المرحاض، فأنا مريض.
وكان من قانون الثانوية أنه لا يسمح للطلبة الخروج من القسم إلا للضرورة القصوى، فرد علي المراقب وهو يتمعن فيا:
ـ أرجوا أن لا تكون قد طردت من القسم.
فأجبت بالنفي وأستسمحته بالانصراف لأني مستعجل جدا وأنا أتظاهر بأن بطني يؤلمني..هربت من المراقب العام و الذي نلقبه نحن الطلبة "زيزون" و أسمه الحقيقي "سمير العربي" وقصة لقب "زيزون" أنه كان يلقي خطابا بمناسبة بداية العام الجديد منذ أربع سنوات وذكر غصن الزيتون وبدل قول غصن الزيتون قال غصن الزيزون ولم ينتبه لما قال فانفجر الحضور بالضحك، ومنذ تلك الحادثة أصبحنا نلقبه "زيزون" لكن مع ذلك فهو قاسي جدا ولا يتسامح أبدا مع الطلبة وحتى الأساتذة وربما لهذا السبب أصبحت هذه الثانوية من بين الأفضل مابين المؤسسات التربوية الأخرى ونسبة النجاح فيها كبير..وصلت إلي الحمام ودخلته، بقيت أترقب دخول أحد المراقبين أو حتى المراقب العام لأنه من عادته أنه يقوم بجولة تفقدية للحمام فقد أمسك أكثر من مرة بطلبة يدخنون ومنهم من كان يتعاطي المخدرات..يدخل أحد الطلبة الحمام فأهم بالخروج فيسألني الطالب:
ـ هل رأيت "زيزون"؟.
ـ نعم، كان من جهة الأقسام العلمية.
ـ أرجوا أن لا يأتي إلي هنا.
ـ لا أضمن لك، فجولاته علي الحمام هذه الأيام كثرت، سمعت أنه امسك الأسبوع الماضي علي أحدهم في الحمام وهو يتاجر بالمخدرات.
يخرج الطالب سيجارة ويقول:
ـ حتى التدخين منعوه علينا، ما هذه المؤسسة المملة، لا يعرفون إلا الدراسة.
تبسمت وقلت:
ـ أضن أن هذه المؤسسة هي مخصصة أصلا للدراسة.
خرجت من الحمام من الحمام وأنا أتمني أن لا ألتقي بالمراقب العام..ألقيت نظرة علي الساعة، لم تبقي إلا دقائق وتنتهي حصة التاريخ..رجعت للقسم الفارغ وبقيت فيه وأنا أتساءل من هذا اليوم غير عادي، وفي أثناء تفكيري يرن الموبايل فالتقطه بسرعة حتى لا يحس بي أحد وقلت:
ـ ألو، من معي؟.
ـ هذا أنا أبوك، ألم تعرفني؟.
وكان من عادتي أن أري رقم المتصل قبل أن أرد لكني رددت قبل أن أري الرقم.
ـ لا، لكني لم أشاهد الرقم.
ـ ليست مشكلة، كيف حالك؟.
ـ لا بأس أبي، لكن تعرف أني في الثانوية والقانون يمنع التكلم في الموبايل.
ـ أعلم، لكني اضطررت للاتصال بك حتى أخبرك أني لن آتي اليوم للبيت.
تملكتني حالة من الحزن والأسي وقلت:
ـ حتى اليوم لن تأتي.
ـ آسف "أيمن"، العمل كثير جدا، لا تحزن سأعوض عن هذا في المستقبل، لا تنسي أن تخبر أختك.
ـ لا تقلق يا أبي، فقد تعودت علي ذلك.
ـ أتركك بخير يا "أيمن".
ـ إلي اللقاء أبي.
ينقطع الاتصال وأقفل الموبايل..هذا هو أبي، أصبح كثير السهر خارج البيت، في الأول كنت أضن أنه العمل، لكن العمل ليس لهذه الدرجة..لا أدري ما يفعل لكنه منذ أن ماتت أمي رحمها الله تغير كثيرا، كأن وفاة أمي أثرت فيه كثيرا..لقد علمت من خالتي أن أبي وأمي كانا يحبان بعضهما كثيرا، وربما هذا ما جعله لا ينزع صورتها المعلقة في البيت أبدا، كان كلما ذكروه بها يحزن وينسحب من المجلس حتى صاروا يتحاشون الحديث عنها أمامه..لكن هذا الأمر بدأ ينقص مع مر الأشهر والسنوات، وبعد أن كان قليلا ما يتكلم ويضحك أصبح منفتحا علي الحياة..لن أقول أن هذا الوضع لا يعجبني بل هي سنة الحياة ومستحيل أن يبقي متعلقا بالماضي، لكن أضن أن هناك شيئا أخرجه من حزنه.
يرن جرس الثانوية..أخرج من القسم لألتحق بقسمي، هممت بدخول قسمي فأجد أستاذ التاريخ قبالتي فيقول لي:
ـ "أيمن"، يجب أن تعلم أني أبحث عن مصلحتك ولم آتي لهنا لأكون عائقا أمام نجاحك، أنا طردتك اليوم لتعلم أنك مثل جميع زملائك مهدد بطوفان الفشل إن لم تنتبه لنفسك لأنه لن يرحمك أبدا.
طأطأت رأسي وقلت:
ـ شكرا يا أستاذ، وأنا أسف علي ما بدر مني اليوم.
فرتب بيده علي كتفي وقال:
ـ لا عليك، فما هي إلا كبوة جواد.
انصرف الأستاذ ودخلت القسم والتحقت بـ"علي" في الطاولة فقال لي:
ـ لم أكن أعرف أنك صرت عنصرا مشوشا لهذه الدرجة.
فقلت له وأنا أتبسم:
ـ شكرا يا زميلي في التشويش.
وأنا أدردش مع زميلي "علي" أسمع صوتا من خلفي يقول:
ـ مرحبا يا جماعة.
أستدير فأجد تلك الفتاة الجديدة ورائي
ـ مرحبا بكي في قسمنا الجميل.
رد عليها "علي" بشكل عادي بينما بقيت أنا أنظر مندهشا ولم أجد ما أقول
ـ ألن ترحب بها يا "ايمن".
أستدير إلي "علي" وأنا مازلت في حالة من الشرود ثم قلت وكأني أستفيق:
ـ نعم، نعم مر..حب..ا بكي.
تعجبت من حالي وكيف لم أستطع أن أقول كلمة واحدة بشكل عادي.
ـ أنا "يسرا" طالبة جديدة في القسم،"يسرا الواجد".
فأرد عليها لكن أفضل من الأول:
ـ مرحبا..بكي،..أنا "أيمن جبور" وهذا زميلي "علي باشا".
فضحكت وقالت مازحة لـ"علي":
ـ أضنك من عائلة "محمد علي باشا".
فرد عليها "علي" وهو يضحك:
ـ لم أبحث بعد في أصل عائلتي.
تعجبت من انسجامهم في الحديث وبدأت أتساءل عن عائلة "محمد علي باشا".
ـ أسمك جميل، من أسماك؟.
قال "علي" الذي أحسست أنه بدأ يجتذبها في الحديث، فهو متعود علي جذب أي فتاة يصادفها ومهما كان شكلها أو لونها أو أصلها، كان يحب اجتذاب البنات حتى يحس أنه فتي جذاب..لم أكن اهتم بهذا الأمر لكني أحسست بالتضايق من كلامه معها.
ـ أبي سماني "يسرا" تفاءلا بأن أكون يسيرة عليه، وأنا أحب أسمي كثيرا وأحب أبي أكثر.
ضحكت وضحك "علي" بينما تبسمت وبقيت أتمعن في وجها وهي تضحك..كانت أجمل ضحكة رأيتها في حياتي..لا أدري ماذا يحدث لي، كأن هذه الفتاة الجديدة سحرتني بسحر غريب..حاولت أن أبعد ناظري عن وجهها لكني لم أستطع، كانت تملك جمالا طبيعيا..لم أفهم ماذا يحدث لي ولِما أصابني الخجل بشكل مفاجئ..فمن عادتي أن أكلم البنات بشكل عادي وبدون أي حاجز وكأني أكلم أحدا من أصدقائي الذكور لكن مع هذه الفتاة لم أستطع حتى أن أقول كلمتين مع بعضهما بشكل عادي..تنسحب "يسرا" وأنا مازلت أحدق في وجهها.
ـ "أيمن"، "أيمن"..أيه، أين سرحت.
وأجد يد "علي" تلوح أمام وجهي:
ـ نعم، ماذا هناك؟.
ـ قلت لك أنها تملك قوام جذاب.
ـ الفتاة جديدة وأنت تتمعن في جسدها، احترم نفسك قليلا.
قلت وقد تملكتني حالة من الغضب..لم أفهم لماذا غضبت رغم أن "علي" متعود علي هذه الأمور ويقولها لي دائما عندما يشاهد فتاة جذابة ولا أغضب أو أتضايق.
ـ ولماذا أنت غاضب هكذا؟.
ـ لست غاضبا..المهم أين هي؟.
ـ خرجت من القسم.
ـ إلي أين؟.
ينسحب "علي" لينظم لمجموعة أخري ويقول:
ـ لا أدري، قالت أنها تحتاج للخروج قليلا.
أخرج من القسم مسرعا وأنا لا أفهم لماذا أبحث عنها وما سبب اهتمامي الزائد بها..أبحث عنها في الرواق ثم أتجه إلي الساحة، وبينما أنا أبحث عنها ألمحها من بعيد مع شاب يدردشان..كان الشاب وسيما ويظهر أنه من جماعة الطبقة الراقية..كانا منسجمان في الحديث، تجاهلت الموقف ورجعت إلي القسم، دخلته وجلست في مكاني وأنا أفكر.
ـ ما بالك "أيمن"، أمرك غريب اليوم؟!.
يسألني "علي" فأرد بنرفزة غير عادية.
ـ وما دخلك إن كنت غريب أو مجنون، اهتم بشؤونك.
يسكت "علي" ويستدير إلي أحد الأصدقاء من الجهة الأخرى.
ما بالي اليوم، ما قصة هذه البنت "يسرا" ولماذا أنا غاضب هكذا..هل لأني رأيتها تقف مع فتي أخر وتدردش معه وهما في قمة الانسجام..فلتقف وأنا ما دخلي، لماذا حتى أغضب؟..يدخل القسم أستاذ الرياضيات فأفتح كراسي وأمسك قلمي، فهذه المادة من أهم اختصاصاتي ولا أحب أن أضيع درسا واحدا فيها.